كانت بحاجةٍ مُلحّة إلى الوقت والمال، ولهذا كانت تحتاج إلى الحصول على
وظيفة. غير أنها لم تكن تعرف حتى كيف تفعل ذلك. لقد دفعت ثمنًا باهظًا في حياتها، ولسنوات.
وعندما نقول "لسنوات"، فربما منذ كانت في الخامسة من عمرها تقريبًا. وما
المكافأة التي حصلت عليها بعد كل هذا العمل الشاق؟ ظلمٌ كبيرٌ لحق بها.
هذا ما كانت تعتقده عائشة، البالغة من العمر عشرين عامًا تقريبًا.
كانت عائشة محترفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ لم يكن يُستعصى عليها
التعامل مع أي جهاز تكنولوجي يوضع أمامها. وكيف لا، وهي وأقرانها قد وُلدوا في عالمٍ
غزته الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب التي تعمل باللمس؟ منذ نعومة أظفارها، وعائلتها تعطيها الهاتف
لتبقى هادئة، وتسمح لها باستخدام التابلت أثناء تناول الطعام. وعندما تكون مع أصدقائها
أو حتى مع العائلة، كان المجال مفتوحًا لها لمشاهدة الألعاب والفيديوهات. وبكل تأكيد،
لم تكن لتفوّت الفرصة للاستغراق في هذه العوالم الافتراضية، لا سيما أنها بالمقابل
كانت تدرس بجدٍّ ولا تتسبب في أي مشكلةٍ لمنزلها أو لعائلتها.
حتى جاء ذلك اليوم، وكأن كل شيءٍ تغيّر حينها...
بدأت ظاهرة "بلا مأوى" بالانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي،
وكل ما كانت تفكر فيه عائشة وقتها هو أن عائلتها لا تفهمها مطلقًا، وأنها لم تحصل قط
على القيمة التي تستحقها، رغم أنها فعلت كل ما طُلب منها. ذهبت إلى جميع المدارس التي
أُمرت بالذهاب إليها، فإذا قالوا لها "ابدئي"، بدأت، وإن قالوا "انتهي"،
أنهت.
في كل يوم، كانت تعود إلى المنزل وتدخل غرفتها بهدوء، فإن سألوها سؤالًا
أجابت، وإن لم يسألوها، لم تكن لتتكلم إطلاقًا. وإذا نادوها للعشاء، توجهت إلى الطاولة،
وعندما تنتهي، تضع طبقها في المطبخ ثم تعود إلى غرفتها.
لم تكن لعائلتها سوى أمنية واحدة: أن تكون ناجحة. وبالفعل، كانت عائشة
ناجحة جدًا في دراستها.
وبالنسبة لوالديها، كان الأمر أشبه بحلم. فلديهم عائلة سعيدة، وابنة سليمة جسديًا، ناجحةٌ
في دراستها، ولا تسبب أي مشاكل. تخرجت عائشة من المدرسة الثانوية بهدوء، وحصلت على
المكان الذي كانت تطمح إليه في الجامعة. لم تكن لديهم مطالب كبيرة جدًا على أي حال.
لكن كانت هناك مشكلة واحدة فقط: أنها لم تكن تستطع التخلي عن هاتفها ولو للحظة واحدة .
ونظرًا لتفوقها، لم تركز أسرتها مطلقًا على هذا الجانب. ولماذا ينزعجون؟
فكل شيء كان يسير على ما يرام. صحيح أنهم لاحظوا أنها تقضي الكثير من الوقت على الإنترنت،
لكنهم التمسوا لهذا جانبًا إيجابيًا، لا سيما عندما تحولت الفصول الدراسية إلى التعلم
عبر الإنترنت، إذ تمكنت عائشة من التأقلم بسهولة، بينما واجه الآخرون صعوباتٍ كبيرة.
على الرغم من هدوئها، كانت تعود من المدرسة إلى منزلها بحماسٍ لا مثيل
له، تركض نحو غرفتها فرحة. وبالطبع، كان والداها فخورين، معتقدين أنهما يربيان ابنة
سعيدة. لكنها كانت تعيش سعادتها في عالمٍ آخر، عالمٍ ينتظرها فيه أشخاصٌ يحبونها، كانت
تعد الساعات للقائهم.
بثٌّ مباشر أثناء الدراسة، بثٌّ مباشر بملابس المنزل، بثٌّ مباشر أثناء
قراءة كتاب، الرد على الرسائل، وفتح غرف الدردشة...
كانت تنطلق في حياةٍ لم يكن أحدٌ غيرها يعيشها.
لقد جعلت وسائل التواصل الاجتماعي الناس، ومن بينهم عائشة، يشعرون وكأنهم
يعيشون خارج المنزل. كان لديها أصدقاء يثنون عليها دائمًا. وعندما تبدأ البث المباشر، تنهال عليها القلوب والهدايا
من أشخاصٍ لم ترهم أوتقابلهم من قبل، مما جعلها تعتقد أنها محبوبةٌ حقًا. كانت هناك كشخص آخر تمامًا، شخص مفعم بالحيوية، مبتسمًا
دومًا، محاطًا بآلاف الأصدقاء... لم تكن عائشة، بل كانت نسخةً مزيفة منها.
لكن كل شيء تغيّر في ذلك اليوم.
بما أن عائشة أنهت دراستها، بات عليها أن تجد وظيفةً وتزاول مهنتها. توقعت
عائلتها أن تبدأ هذه الفتاة اللطيفة حياتها العملية، وأن تصبح شابةً قادرةً على الوقوف
على قدميها. لكن كيف سيحدث ذلك؟ وماذا كانت تعرف أصلاً عن إدارة الحياة سوى فتح الهاتف
وإغلاقه؟
لم تكن تريد العمل بهذه السرعة، بل كانت ترغب في الحصول على قسطٍ من الراحة.
واقتنعت عائلتها بأنها ربما تكون على حقٍّ نوعًا ما، فقرروا أن يمنحوها إجازةً سعيدة،
وأرسلوها في عطلة، علّها تعود بحافزٍ جديد يساعدها في العثور على وظيفة.
لكن بينما كانت تحضّر حقيبتها، كان أصدقاؤها خلف الشاشة معها في كل لحظة ، يشيدون
بملابسها، يثنون على خياراتها. قصّت لهم أحلامها، وعندما انتهت العطلة، عادت إلى منزلها
بنفس الحماس الذي ذهبت به.
وما هي إلا لحظاتٌ حتى عاد كل شيءٍ إلى ما كان عليه.
أعدّت لها العائلة مفاجأةً كبيرة، فقد وجدوا لها عملًا مناسبًا للغاية،
وحان الوقت لتتحمل المسؤولية، لكونها شخصًا بالغًا يجب أن يتصرف بما يناسب سنّه. لم
يتوقعوا أن يكون رد فعلها على هذا النحو:
"لماذا، بهذه السرعة؟! ما زلت غير قادرةٍ على ذلك بعد!"
ثم شرعت في البكاء، شاعرةً بظلمٍ كبير. لماذا لا تستطيع طفلة مثلها البقاء
في المنزل؟ على الأقل، هذا ما كانت تعتقده.
ألقت كل قطع الإكسسوارات الموجودة في غرفة المعيشة على الأرض، صرخت بأعلى صوتها، وأغلقت باب غرفتها
على نفسها.
وقف الأبوان مذهولين، وشعرا بغصةٍ كبيرة. كان الأمر محزنًا، لكنه الواقع.
لم تعد ابنتهما طفلةً كما تقول، لكنها أيضًا لم تكن راشدة بما يكفي.
هل تأخرا في تحميلها شيئًا من المسؤولية؟
لم يتمكن أحدهما من النظر إلى الآخر، لكنهما أيقنا أن ما تم تأجيله أصبح
أكبر وأكبر، وربما عليهما مواجهته الآن.
ماذا سيفعلان مع هذا "الطفل
البالغ" الذي لم يخضع لأي نوعٍ من الرقابة، ولم يعلم شيئًا عن المسؤولية؟
بينما كان والداها يفكران في الخطوة التالية، كانت عائشة قد فتحت بالفعل
غرفة دردشة، وبدأت تحكي باكيةً عن الظلم الذي تعانيه. ولكنها وبكل تأكيد ماكانت لتتحدث عن
الفرق بين التربية والتنمية الجسدية
للأسف، يخلط كثيرٌ من الناس بين تربية الأبناء وتنمية أجسادهم فقط. إن
نمو الطفل ليس مسؤولية والديه وحدهما، ومحاولة إطعامه بكثرة ليست تربية. إعطاؤه كل
ما يريد وشغله بالترفيه لا يعدو كونه تسليةً للنفس. وعندما لا يدرك الأهل ذلك في الوقت
المناسب، سيجدون حولهم أشخاصًا بأجسادٍ بالغة، لكن بعقولٍ ما زالت في مرحلة الطفولة.
المهم هو التربية... تربية إنسانٍ صالح، قادر على الاختيار الصحيح، وتقليل
أخطائه، والتعلم منها، وإدارة الملل... إنسانٍ ينضج، ولا يتابع حياته كطفل .
يسعى كل إنسان في هذه الحياة لأن يكون سعيدا وناجحا
علم تصميم الخبرات هو علم الحقيقة الذي اتخذ من أهداف الإنسان غاية له.
يوجه الإنسان ليكون قادرا من خلال وعيه المفتوح على اتخاذ قرار صحيح وخيارات سليمة. ويزوده باستراتيجيات
حل حقيقية لمشكلاته
وكل ذلك من خلال ندواته التي تبدأ "بفن معرفة الإنسان" ،"
المهارة في العلاقات" ،" سيكولوجيا النجاح" والبرامج الأخرى المستمرة
.
ليتمكن الإنسان من تحقيق سعادته معتمدا على ذاته .
منذ وجد الإنسان على وجه البسيطة وعدوه وصديقه لم يتغيران
إنهما فقط ذلك الذي يراه في المرآة
فليكتشف الإنسان ما يمكن أن يفعله بنفسه .
يحيى هامورجو
Yorumlar
Yorum Gönder